اتّسمت الطبيعة بالقسوة حتى بدايات القرن الثامن عشر، إذ توجّس الإنسان من عالمها الغامض وعاداها باستمرار للحصول على لقمة العيش. ولم تظهر قدرته على تطويعها وتحويلها إلى مأوى آمن للجنس البشريّ إلّا في العصور اللاحقة، التي ازدهرت خلالها فلسفة الجمال الطبيعيّ وامتدّ تأثيرها لتشمل جميع أنواع الفنون والإبداع.
وسرعان ما شكّلت الطبيعة مصدر الإلهام للعديد من المدارس الفنيّة التي انتمت إلى فنّ التصوير الطبيعي، مثل مدرسة هاسيجاوا اليابانيّة، التي أسسّها هاسيجاوا توهاكو، الرسام الياباني المشهور بتصويره لأشجار الصنوبر والنباتات المزهرة، والمدرسة الانطباعية التي كان الفنان الفرنسي كلود مونيه من روّادها، واشتهر بلوحة زنابق الماء ولوحة "انطباع، شروق الشمس" التي استمدّت المدرسة الانطباعية اسمها منها. وغيرها العديد من المدارس مثل مدرسة نهر هادسون التي عكست غموض ووحشة الغابات الشمالية الأميركية، والمدرسة الوحشية بريادة الرسام الفرنسي هنري ماتيز الذي وجد أن الفنان يجب أن يفهم الطبيعة ويتطابق مع إيقاعها قبل أن يحاول التعبير بلغته الخاصة.
كما ظهرت الطبيعة كعنصر مستقلّ في الأدب، ولعبت دوراً أساسياً في تحديد مزاج أي عمل أدبي وجوّه العام، بدءاً من مؤلفات بوشكين وتشيخوف المستوحاة من الطبيعة الروسية القاسية ووصولاً إلى مشاهد الريف الإنكليزي في روايات جاين أوستن وحتى مؤلفات الفرنسيّ إيميل زولا، مؤسس المدرسة الطبعانيّة التي نشأت مع ازدهار الاكتشافات العلمية وظهور نظرية داروين، وآمنت بأن الشخصيات الإنسانية ما هي إلا نتاج العوامل الوراثية والبيئة المحيطة، وأن دراسة الطبيعة وقوانينها يجب أن يشكّل جوهر جميع العلوم والفنون.
واكتسبت رموز الطبيعة ودلالاتها مكانة كبيرة في عالم الأدب لتصبح بمثابة محاكاة للأفكار والتجارب الإنسانية المعقدّة، ووسيلة تتيح للقارئ الارتباط بالقصة على مستوىً شخصيّ وعميق. وأصبح من المتعارف عليه مثلاً أن طائر الحمام يرمز للسلام، بينما يرمز الغراب للشؤم والهلاك، ويرمز الأسد للقوة والطاووس للفخر والفأر للخنوع وهلمّ جرّاً، كما ترمز العيدان أو الأعشاب البريّة إلى الشرّ أو العزلة، وتشير الورود للرقة أو الصّبا وتدلّ الأشجار على الخلود أو الرغبة فيه...
وتساهم بدورها حالة الطقس والمناخ في تشكيل إيقاع العمل الأدبي، وتساعد في فهم تطوّر الشخصيّات واستيعاب تقلّباتها المزاجية، فالضباب الذي كثيراً ما يرافق النصوص البوليسيّة عادةً ما يرمز للارتباك أو الغموض، بينما تنذر الأجواء العاصفة بالاضطراب والمشكلات. ويظهر أدب البحار ليركّز على علاقة الإنسان مع المياه وصراعه معها، حيث تتحدد سمات الأبطال من خلال وصف البحر أو المحيط، بدءاً من الأوديسة اليونانية وحتى رواية الشيخ والبحر لهمنجواي وجزيرة الكنز للكاتب الاسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون وموبي ديك للروائي الأميركي هرمان ملفيل وغيرها العديد.
ومع تفاقم الأزمات البيئية وتزايد الحاجة إلى تمثيل البيئة والدفاع عنها تطوّرت العديد من المفاهيم المتعلّقة بعلم البيئة، وظهر مصطلح الدراسات الخضراء أو النقد البيئي في ثمانينيات القرن العشرين ليحاول وضع منظومة من القواعد التي تجمع بين الطبيعة والأدب. واهتمّ هذا الحقل النقديّ باستكشاف العالم الطبيعي في النصّ الأدبيّ من منظورات نقدية متنوعة: ثقافية، اجتماعية، إعلامية، سياسية، توجيهية...إلخ. وسعى إلى إبطال المركزية البشرية في النص ومساواتها مع عناصر الطبيعة الأخرى، كما عمل على تحليل الجغرافيا والأبعاد اللونيّة باعتبارها ثيمات ترصد تصوّر الكاتب للعالم وفهمه له، ووجد في الطبيعة رمزاً للاستمرار البشري وفي اختلال توازنها اختلال توازن وحضور الإنسان نفسه.
ويصنّف النقد البيئي الطبيعة ضمن أربع فئات أدبية، تركّز أول فئتين منهما على تحليل العلاقة المهيبة بين البشر والطبيعة، وتشملان البراري التي تندرج تحتها الصحارى والمحيطات والمناطق غير المأهولة في العالم، ومشاهد الطبيعة الخلابة من الغابات والبحيرات والجبال. بينما تميل الفئتين الأخيرتين للخيال واللغة الشعريّة، وتشملان المناطق الريفيّة مثل الهضاب والحقول والتجمعات الحرجية، ومشاهد الطبيعة الحضريّة من الحدائق والمتنزهات ضمن المدن.
ويطرح نقّاد البيئة أسئلة من قَبِيل: كيف يتم تمثيل الطبيعة في النص؟ وما الدور الذي يلعبه المكان المادي في الحَبْكَة؟ هل تتَّفق قيم النص مع الأخلاق البيئيّة؟ وهل يكتب الرجال عن الطبيعة بشكل مختلف عن النساء؟..
وقد أدَّى السؤال الأخير إلى فئة فرعية من النقد البيئي تُعْرَف باسم النسويّة البيئيّة، وهي فئة نقدية تحللّ العلاقة بين الاضطهاد والأرض، وتبحث في أسباب الاعتقاد بأن الأعراق والإثنيات المُضطَهَدة أقرب إلى الطبيعة من غيرها، من خلال تسليط الضوء على الثقافة الغربية التي تفصل بين الطبيعة والحضارة. وتؤمن هذه الحركة بأنّ تدمير البيئة يعود في أصوله إلى قواعد ومعايير النظام البطريركي، كما تدعو لبناء علاقات غير هرميّة وغير قائمة على السيطرة بين الإنسان والطبيعة.
ومن أهمّ النقّاد البيئيين الكاتب الأميركي ويليام روكيرت الذي يُعدّ أوَّل مَن استخدم مصطلح النقد البيئي، والبروفيسور الأميركي لورنس بويل، مؤلف كتاب الخيال البيئي وصاحب النظرية القائلة بأنّ النقد البيئي ملأ الفجوة بين الأدب والواقع، وغيرهما العديد من النقّاد الذين لم يقتصر تأثيرهم على تغيير نظرتنا تجاه الأدب، وإنما ساهم بإعادة تشكيل السياسات العالميّة والتوجهات الاستهلاكية السائدة.
واليوم مع تسجيل عصرنا الحالي درجات غير مسبوقة من التلوّث وخسارة الأراضي الزراعيّة وارتفاع مستويات سطح البحر، تزداد حاجتنا الملحّة لأصوات الفنانين والأدباء التي تدعو لصحوة بيئية حقيقية وشاملة، وتساهم في تشكيل صورة متخيّلة لعالم بديل نعي فيه أننا جزء من صورة حيّة ونمتلك الجرأة على التحكم بزمام خياراتنا وأفعالنا.
بقلم: بانا شعبو، كاتبة محتوى في بيت المحتوى
