ربا الخاروف - محررة جودة في بيت المحتوى
ليس هنالك ما يجعل الكاتب أكثر سعادة من نجاحه في كتابة أفكاره بتسلسل وانسيابية، حيث يعلم إلى أين يريد أن يأخذ شخصيات روايته، وكيف يرسم تفاصيلها، أو أيّ أجوبةٍ يقدّم على تساؤلات قراء مدونته، أو أيّ موضوعٍ يتناول في مقالته الأسبوعية. لكن، ماذا لو توقف سيل أفكاره، وخانته كلماته، ووقف عاجزاً عن انتقاء التراكيب المناسبة للتعبير عمّا يجول في باله، إذ يتحول فكرهُ إلى صفحةٍ بيضاء خالية. هذا هو أسوأ كوابيس الكاتب، العائق الإبداعيّ أو ما يُعرف بقفلة الكتابة، الحالة التي قد يمرّ بها الكثير من الكتّاب بين الحين والآخر، بدرجاتٍ متفاوتة ولأسبابٍ مختلفة.
قد تعني هذه الحالة توقّف الكاتب التام عن الكتابة، أو أن يعجز عن كتابة ما يريده بالضبط، أو أن يكتب ما يعتقد أنه لا يصلح للنشر. وقد يواجه البعض هذه العقبة في مجالٍ من الكتابة دون غيره، فيتوقف عن كتابة الشعر مثلاً وينتقل إلى عوالم مختلفة في الكتابة مثل الروايات أو المقالات الأدبية. ومن الممكن أن تستمر قفلة الكتابة أياماً أو أشهراً، أو حتى سنواتٍ، كما حدث مع الكاتب البريطاني جي آر تولكن، الذي استغرق أكثر من 12 عاماً لإنهاء رواية سيد الخواتم الشهيرة؛ أو الشاعر الفرنسي بول فاليري، الذي عاد بعد انقطاع 15 عاماً كاملة ليكتب أروع قصائده.
وعلى الرغم من أنّ هذه الحالة لا بدّ وقد واجهت العديد من الكتّاب على مرّ التاريخ، إلاّ أنّ المفهوم الصريح لقفلة الكتابة لم يظهر حتى القرن التاسع عشر. وكان الشاعر صامويل كولريدج من أوائل من تحدثوا عنها حينما سُئل عن سبب توقفه عن كتابة الشعر، فقال: أنّ الأمر أشبه بالطلب من شخصٍ مشلول بالكامل أن يرفع يديه بالدعاء، فهل يستطيع؟ وفي أربعينيات القرن الماضي وجد المحلل النفسي إدموند برجلز أنّ هذه الحالة تستوجب الدراسة، حيث ربطها بشكلٍ رئيسي بالجانب النفسي للكاتب. وهذا ما أكّده جيروم سينجر ومايكل باريوس، أخصائيا علم النفس الإكلينيكي، بعد دراسةٍ مطولةٍ أجرياها على مجموعةٍ من الكتّاب خلُصا فيها إلى عددٍ من النتائج والأسباب المتنوعة وراء قفلة الكتابة.
وتتلخص هذه الأسباب بعدم الرضا عن الجانب الإبداعي للكتابة والخوف من عدم القدرة على الابتكار وإيجاد أفكارٍ جيدةٍ وصياغتها بالطريقة الأمثل. فالنقد الذاتي المفرط يشكّل عقبةً كبرى في مسار عملية الكتابة والإبداع، وخاصةً مع وضع معايير عالية وغير واقعية والسعي للكمال فيما يتم تقديمه. كما يمرّ البعض بحالة خوفٍ من المنافسة والمقارنة مع غيرهم، أو من رفض الجمهور لنتاجهم الأدبي أو عدم إقبالهم عليه. ويُعدّ التسويف من أبرز المسببات لحالة الركود هذه، وخاصةً مع عدم وجود دافع داخلي أو خارجي يُبعد الكاتب عن التأجيل والتراخي ويحفّزه على مواصلة ما بدأه. ويُضاف إلى التسويف كثرة العوامل التي تشتت ذهن الكاتب، وتعيق تسلسل أفكاره، وتحرفه عن توجهه الأساسي، وخاصةً في زمننا الحالي. والغريب في الأمر أنّ السعي لاتّباع تقنياتٍ وقواعد محددة، ومحاولة تحقيق معاييرٍ من شأنها زيادة الوصول لجمهورٍ أكبر على شبكة الإنترنت، قد يؤثّر سلباً على التدفق اللاواعي لأفكار الكاتب ويحدّ من إبداعه وسلاسة كتاباته.
ويختلف تعامل الكتّاب مع حالة الصمت الفكريّ هذه، فيصاب البعض بالهلع لإحساسهم بالعجز والفراغ الفكري والجمالي، بينما يعتبرها آخرون فرصةً لإعادة النظر وتقييم ما سبق كتابته في سياق الأفكار واللغة. وينصح البعض بالابتعاد عن الكتابة تماماً عند الاصطدام بهذا العائق وعدم إجبار أنفسهم على الاستمرار، والعودة إلى الكتابة بعد استراحةٍ قصيرة. في حين يعمل آخرون على تحديد روتين كتابةٍ والالتزام به لتصبح الكتابة عادةً متأصلة لديهم. ويرى العديد أنه من الضروري الاستمرار بكتابة أي شي، ولو بشكلٍ عشوائي دون التقيد بشروط اللغة وبغض النظر عن جودة الكتابة، فقط أن يدع الأفكار تأتي كما هي؛ فلا يقف عند اختيار كلّ مفردةٍ أو تنسيق كل جملة بالشكل الأمثل الذي اعتاد عليه، ليعود إلى مراجعتها وتدقيقها لاحقاً عندما يستعيد زخمه الأصلي في الكتابة.
وفي بعض الأحيان يكون العائق في نقطة الانطلاق في عملية الكتابة، فيمكن حينها البدء من منتصف الموضوع أو أي نقطةٍ منه حتى تسترسل الأفكار وتكتمل الصورة. ويساعد تغيير أدوات الكتابة والمنظور الذي يتم فيه التعامل مع الموضوع على مواجهة هذه الحالة. ويجد البعض في الطبيعة والتأمل والابتعاد عن جميع مشتتات الحياة العصرية الطريقة الأمثل للعودة إلى مسارهم الإبداعي إذ تساعدهم على التخلص من الضغط والتوتر الذي يعيقهم. ومن المهم في فترة الانقطاع هذه أن يعمل الكاتب على تغذية خياله وزيادة مخزونه الإبداعي واللغوي بأن يقرأ في مجالاتٍ متنوعة أو يشاهد أفلاماً أو يزور معارض فنية تحفّز إبداعه.
ومن الطريف أنّ بعض الكتّاب يلجؤون إلى حيلٍ غير تقليدية لاستعادة زخمهم الكتابي. ويشتهر فيكتور هوغو، الذي بقي 17 عاماً لإنهاء رائعته البؤساء، بمحاولته التغلب على حالة التسويف وإلزام نفسه بالكتابة بأن طلب من خادمه أن يخفي ثيابه كل صباح، وبذلك يبقى هوغو في غرفته يكتب حتى يُرجع الخادم ملابسه. وصرّح كاتب الخيال الفلسفي دان براون بأنه يكتفي بقلب نفسه رأساً على عقب عندما ينقطع منه سيل الأفكار، ليستعيد بذلك جريان أفكاره.
لا بدّ لكل كاتبٍ أن يدرك أن الكتابة هي ممارسةٌ طويلة الأمد تمر بمراحل عديد من التجربة والخطأ، والنجاح والفشل. ويمكن اعتبار قفلة الكتابة جزءاً من هذه العملية نفسها، سواء كانت حالةً نفسيةً من انقطاع الإلهام أو فرصةً لاستعادة الإبداع وتجديد ذخيرة المخيّلة. وقد تكون المسألة برمتها مسألة وقت، وكل ما على الكاتب فعله هو انتظار الوقت المناسب للكتابة، إلاّ في حال وجود موعدٍ نهائيّ للتسليم والتزاماتٍ مهنية فهذا موضوعٌ آخر.