بقلم: بسام يوسف، رئيس التحرير، ميديا ميشن
بالنسبة لي، لم تتغير نظرتي إلى القراءة منذ ما لا يقل عن خمسين عاماً: فلا زلت مؤمناً أن أشكال الفنون المختلفة (وبينها الكتابة الروائية والقصصية والشعرية..) وجدت لتعبر عن أفكار معينة ضمن أشكال غير اعتيادية، وبمهارات غير متاحة للجميع، وبطريقة تحرك المنطق والخيال معاً.
هذه العلاقة البسيطة والمعقدة معاً بين الفكرة وشكل تقديمها، هي ما يجعلني مغرماً بقضاء الكثير من وقت حياتي في علاقة شخصية حميمية مع الورق، بشكليه السللوزي والزجاجي، والحبر، بشكليه الكيميائي والالكتروني. وهذه العلاقة هي ما تمنحني فرصة معرفة المزيد (من الفكرة)، والتحليق في عوالم متنوعة يرسمها خيالي بمساعدة من كلمات المؤلف.
فمع هذا الكتاب أكون جلاداً مرة، وضحية مرة أخرى.. امرأة مشردة على رصيف ذات يوم، ومحارباً يرى العالم من وميض سيفه ذات حرب.. وبهذا الكتاب أعرف أن معرفتي قد زادت نقطة، وأن العالم من حولي قد اتضح أكثر، واتسع أكثر، وباتت الحياة أكثر احتمالاً مما هي عليه في واقعها المر القاسي.
إلا أنني أعاني، ومنذ مدة غير وجيزة، من مشكلة غير صغيرة: لم أعد أستطيع قراءة إلا القليل النادر من الكتب المؤلفة باللغة العربية! رغم أنني عربي اللغة! بل، وعلى عكس الاتجاه السائد: أعشق هذه اللغة وأستمتع بألعابها ورقصاتها. ورغم أنني كنت أستمتع بالكثير من الكتب قبل أكثر من عقدين من الزمن! فما الذي جرى؟
لندع الكتب "الجادة" جانباً، تلك الموصوفة بالفكرية والفلسفية وما إلى ذلك. فمن الطبيعي أن مجتمعات ازدادت أزمات وجودها حدة، وتمزقت الأصول القليلة التي كانت قد بنتها عبر آلاف السنين، وجمدت لغتها قبل أن تسيل في عالم من الاستهلاك السطحي والضحل، من الطبيعي أن تتوقف هذه المجتمعات عن إنتاج كتب فكرية أو فلسفية (ربما الأدق أن نقول محاولات فلسفية).
كذلك، لنتجاهل آلاف عناوين "الدوواين" التي تقول لك، بدءاً من عنوانها وحتى آخر لطخة لون في غلافها الأخير: ابتعد عني! فما لي في الشعر والشاعرية شروى نقير!
ولنتحدث عن "الرواية"! ذلك العالم الخاص والسحري الذي يمتلك "الكاريزما" و"القوة" لجمع ملايين الناس المختلفين والمتباينين وحتى المتناقضين.. في حضرته! لماذا لم تعد تلك الساحرة قادرة على إغوائي، رغم آلاف العناوين التي تطرح سنوياً في العالمين الورقي والافتراضي؟!
لست ناقداً لأجيب بما يخص "قواعد الفن"! ولا تاجراً لأجيب بما يخص "سيولة السوق"! وأيضاً: لست صاحب دار نشر لألقي المسؤولية على التنظيم أو القرصنة أو أي سبب آخر. والأهم: لست كاتباً روائياً لأبرر نقصي بتعابير أتعمد ألا تكون مفهومة لأحد! فكل ما أنا عليه هو أنني "قارئ"! قارئ لم يتوقف عن قراءة الروايات رغم كل ما قلته. فقط: خرجت الكتب الروائية المؤلفة باللغة العربية من قائمتي، وبقيت الكتب الروائية المترجمة، عن لغات عدة ومن ثقافات عدة، وحيدة في مملكتي!
وفي حقيقة الأمر، لم أجد تفسيراً لواقعي هذا سوى أنني مللت، ضجرت، تعبت من أن أكون "عجينة" يعتقد كل كاتب عربي أو كاتبة عربية بأنها صالحة ليلقي عليها كل ما يخطر على باله من "مواعظ" و"حكم" و"دروس" في الأخلاق والسياسة، في الدين والاقتصاد، في الحاضر والماضي.. بطريقة يحلو معها تمني "عصا الكتّاب" الشهيرة التي كان يحملها "شيخ الكتّاب" القديم.
بالنسبة لي، بما أن فعل القراءة فعل شخصي محض، تكمن القصة كلها في أن الكتب الروائية العربية تخلت عن "القصة"، وتحولت إلى نوع من الركام الذي يحاول أن يقدم كل شيء: الدروس والحكم والمواعظ والتاريخ والسياسة والشطحات اللغوية و.. إلا "القصة".. إلا الحكاية نفسها التي لا محل لرواية دونها!
قبل قليل قلت إن كل أشكال الفنون وجدت للتعبير عن "فكرة"! نعم. المشكلة التي أتحدث عنها ليست ذلك، ليست أن تتضمن الرواية أفكاراً جادة مختلفة، سواء كانت تعزيزاً للقيم الأخلاقية أو انخراطاً في موقف سياسي أو تفسيراً لتاريخ. في الواقع لا توجد رواية مهمة في أي لغة في العالم لم تتضمن تلك القيم والقراءات.. من دوستوفيسكي وتولتسوي، إلى ماركيز وموريسون، وليس انتهاء بهيسة وكاوازاكي.
المشكلة التي أعاني منها هي أن القصة، الحكاية، اختفت لصالح جمل وفقرات وفصول كاملة لا تحتوي إلا تلك "القيم والمواقف والتفاسير" كما لو كانت محاضرة في مدرسة لا تتقن فن الجدل! بل فقط تتقن فن الإلقاء والتلقين! بل، في بعض تلك الكتب، يكفي أن تقرأ أول عشر صفحات حتى ينتهي الكتاب: فكل ما كان عليك استنتاجه من حبكة معقدة وماهرة وجميلة ومغرية: وضع في "محاضرة" أول الصفحات!
أنا قارئ، وأريد فعلاً أن أجد الرواية العربية التي تحتضنني، كما فعلت كتب الطاهر وطار، وعبدالرحمن منيف، وحيدر حيدر ونجيب محفوظ.. والعشرات ممن رحل، أو على وشك الرحيل..
أنا قارئ، ولست عجينة جاهزة لتتشكل كما يرغب من لا يترددون لحظة في صف الألقاب أمام أسمائهم، وبضمنها "روائي/ة"!