لطالما كانت اللغة مرآة المجتمع المتحدث بها. فهي لا تنقل ماضيه فحسب، بل تتجدد مع نموه واستمراره، تنشأ مع نشأة كلّ انسان، تغذيها نوازع الحاجة للتواصل، مؤهلةً إياه لخوض تجاربه الحياتية مع باقي أفراد مجتمعه، مستعينةً بإدراكه الحسي والفكري لنقل ما بداخله. فيوم اللغة الأم هو يوم ثقافات المجتمعات على اختلافها، ويوم الاعتزاز والاعتراف بهويات الشعوب أجمع.
يمتلك كلٌّ منّا نظاماً لغويّاً متكاملاً متمثّلاً بلغته الأم، يتألّف من أنظمة صوتيّة وصرفيّة ودلاليّة، تلعب دور المفعّل الأساسي لثقتنا بأنفسنا وتواصلنا مع المحيط وانتمائنا له. فاللغة تشكل أهم إنجاز بشري حقّقه الانسان، لما لها من تأثيرٍ جوهري على عمق أحاسيسه ومعرفته، حيث يؤكد علماء النفس على أهمية البيئة اللغوية المبكرة للطفل في صقل تكوينه الفكري والنفسي، وتعزيز قدرته على اكتساب المعارف والمهارات المختلفة وتنمية إمكانياته في التعامل مع أقرانه والتكيّف مع محيطه.
وعدا عن كون اللغة الأم عاملاً أساسياً في تكوين ذات الفرد الواحد وجزءاً من هويته الشخصية، فهي نشاطٌ اجتماعي يمكّنه من التأثير على سلوك الآخرين، وتنسيق نشاطه مع غيره من أفراد المجتمع. فنرى اللغة، سواء كانت منطوقة أم مكتوبة، أداة ترويجٍ فعالة للمنتجات التجارية، تنقل أفكار المصنّع إلى ذهن المستهلك وتؤثر إيجاباً على ميله لاقتناء تلك المنتجات.
ونراها وسيلةً لا غنى عنها في نقل الميراث الثقافي لمجتمع ما من جيلٍ لآخر، ابتداءً من لغة الرموز التعبيرية الخاصة بكل حضارة من الحضارات والتي رسمها الانسان منذ القديم على جدران الكهوف بوساطة الإزميل والمسامير، وأقدمها اللغة السومرية المنقوشة بالخط المسماري التي يعود تاريخها إلى 3500 قبل الميلاد على الأقل. والتي كانت كافية لتسجيل كمٍّ لا يستهان به من التاريخ والتراث. ثم تطورت تلك اللغة وسُجّلت على مخطوطاتٍ بعضها موجود حتى يومنا هذا، وصولاً إلى اللغة الحديثة التي لا تزال تتجدد وتتطور مع تطور احتياجات المجتمع المتحدث بها.
كما وأضفت اللغة دلالاتٍ لمعاني مجردة مثل "الصبر" و"الاحترام" و"الكرم"، قد تتواجد أو تغيب في مجتمعٍ دون الآخر، وتعتبر مقياساً لثقافة ذلك المجتمع ودرجة تطوره. فعلى سبيل المثال، تتميز اللغة العربية، وهي اللغة الأم لأكثر من أربعمئةٍ وسبعٍ وستين متحدثٍ حول العالم، بامتلاكها مفردات مميزة قد لا نجد مرادفاً لها في أي لغةٍ أخرى. وهذا الغنى اللغوي إن دلّ على شيء فهو يدلّ على عراقة الأصول العربية وتعمق جذورها في التاريخ، حيث أن هذه اللغة أنجبت الآرامية والعمورية والسريانية وغيرها.
ويصادف الواحد والعشرين من شهر شباط من كل سنة اليوم الدولي للغة الأم، والتي يبلغ عددها ما يقارب الستة آلاف وخمسمئة، وتأتي أهميته من تأكيده على تعزيز الوعي بالتنوع اللغوي لبناء مجتمعات تنشر الثقافات على نحو مستدام. وقد تم إعلان هذا اليوم من قبل اليونسكو عام 1999 تكريماً للحركة التي قام بها الباكستانيون الشرقيون من أجل الاعتراف باللغة البنغالية. وكان شعار اليونسكو في اليوم الدولي للغة الأم لعام 2022: "استخدام التكنولوجيا من أجل التعلم متعدد اللغات: التحديات والفرص"، والذي يبرز دور التكنولوجيا في دعم تعلم اللغات المختلفة، الأمر الذي لن يساهم في حماية العديد من اللغات من الاندثار فحسب، بل سيعمل على إلهام التضامن القائم على التسامح وتقبل مختلف التقاليد والثقافات.
وفي بيت المحتوى نعمل يومياً على تمكين التكنولوجيا وبذل الجهود للارتقاء بالمحتوى العربي على مختلف الأصعدة إلى مستويات عالمية ولنقل المصادر العلمية والأدبية من اللغة العربية إلى مختلف اللغات الأخرى بشكلٍ سليم ودقيق، تأكيداً على ما تحمله هذه اللغة من إرثٍ ثقافي وثراءٍ حضاري.
بقلم: نور حاتم، منسقة المشاريع، بيت المحتوى