قلما تجرني أغنية عربية للكتابة عنها، خصوصاً من الأغاني التي ظهرت بعد عام 2010. نعم يا سادة، كاتب هذه السطور ينتمي لجيل أقدم، لجيل كانت مشاركة الأغنيات بالنسبة له تقتضي نسخ الكاسيت في أحد متاجر الموسيقى، ومن ثم إرسال النسخة من مدينة إلى أخرى مع إحدى شركات النقليات (تسمية شركات النقليات سورية بحتة، لكن المعنى على ما آمل واضح للجيل الجديد الذي يشارك الأغاني كرابط على تطبيق واتساب!).
إلا أن أغنية فرج سليمان أعادتني إلى زمن سابق كانت الكتابة فيه عن الأغاني من هواياتي المفضلة. لا تقلق عزيز القارئ، فهذه التدوينة لن تكون نقداً موسيقياً لأغنية لا زلت أجد فيها ثغرات موسيقية متعددة، إلا أنني أكتب اليوم لأتحدث عن نجاح فرج سليمان موسيقياً ومجد كيال في النص السردي الجميل جداً، في تجسيد ما يحتاجه هذا الجيل الذي شردته الحروب والأزمات وأبعدته عن مدنه وحاراته وحكاياته وقصص غرامه وسعادته البسيطة. يقدم فرج ومجد في هذه الأغنية الاستثنائية دليل عمل حقيقي لهذا الجيل، ليعلماه كيف يبحث عن الجمال والسعادة في مدن الملح والتعب والهزائم وخيبات الأمل.
ولا تقتصر الرحلة العذبة التي تحملنا بها هذه الأغنية على شوارع حيفا ومقهى فتوش الشهير فيها، ولا على حكايات أم صبري وقطار الكرمليت وعاطف المعمرجي وأشرف حنا الذي يطلب قهوته بسرعة كل صباح؛ فالأغنية، كما قالت الصديقة التي تطوعت في مغامرة أن تقدمها لي وهي تعلم صعوبة ذوقي الموسيقي وقسوة آرائي الأدبية، فيها "ما يمس كل شخص، ويداعب ذكريات أي مهاجر تخلى عن مدينته بحثاً عن حياة حقيقية خارج الأغاني". وأجدني أوافق الصديقة التي تنتمي لنفس الجيل الذي يتحدث عنه فرج ومجد في هذه الأغنية التي وصفتها قبل بضعة سطور بالعذبة، وأصفها الآن بالوحشية والقاسية.
فهذه الأغنية نجحت في اقتناص حالة عامة جداً لعشرات وربما مئات ألوف المهاجرين الشباب، وأكاد أتعجب كيف أنها الأغنية الأولى وربما (وصححوني إن أخطأت) الوحيدة التي تتحدث عن ذكريات هؤلاء المهاجرين الصغار الذين غزوا أوروبا هرباً، ولما تغزوهم بعد في ثقافتهم وروحهم التي حملت تيهها من قارة إلى أخرى. كنت لأتخيل أن هذا الجيل الذي انتقل بشكل شبه كامل في هجرة جماعية من شرق المتوسط الدافئ إلى شماله البارد، سيطلق موجة موسيقية جديدة وعميقة محركها الحنين، ليس فقط للذكريات الشخصية، وإنما أيضاً للبساطة التي نملها حين نعيشها، ونشتاق لها حين نخسرها، كما فعل جيل السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي من الجزائر، حينما انطلقت موسيقى الراي إلى آفاقها العالمية، حاملة حنين ذلك الجيل الذي هرب أيضاً في هجرة جماعية قسرية أخرى، هرباً من حرب أخرى.
ولنعد إلى الأغنية، فعلى عكس موسيقى الراي، تغرقنا "فيه أسئلة براسي" بتفاصيل اليوميات العذبة في حيفا، وأعود مجدداً لما وصفتها به قبل بضعة أسطر، فهي في حقيقة الأمر دليل عمل لهذا الجيل، ليتعلّم معها كيف يبحث، ويجد، الجمال في ازدحام التعب والخسائر والقسوة التي حملها العقد الثاني من قرن الضياع، القرن الأول بعد بياتريس كما وصفه أمين معلوف، متنبئاً بخراب من نوع آخر تماماً، لم يأتِ، ولكنه انتدب خراباً آخر أكل مدننا وأرواحنا معاً. فكم منكم، وأنا الآن أخاطب هذا الجيل ذاته، الذي أكتب له لا لفرج ومجد، كم منكم يمكن له أن يحصي يومياته كما أحصتها الأغنية؟ كم منكم يتذكر طعم الحلويات في نسخة مدينته من فرن أم صبري؟ كم منكم يمكن أن يتصل بحبيبته السابقة / حبيبها السابق ليسأل إن كانت نامت على رمل الشاطئ مع شخص آخر؟ كم منكم يتذكر بائع اللبن في الحي، والمقهى الذي حمل ذكريات عشقه الأول، وعشرات الأشخاص الذين عاشوا في محيطكم، وتركوا فيكم ذكريات هامشية، لكنها غنية جداً؟ من منكم يمكن أن يلخص مفردات حياته قبل الهجرة، ويبحث فيها عن كل ما هو جميل وعذب وبسيط، ويمثل الحياة الحقيقية؟ فالحياة الحقيقية، كما قال جون لينن في أغنيته الشهيرة، هي ما يحدث لنا ونحن في زحمة أشياء أخرى، أو، وهذه الإضافة من كاتب هذه السطور وليست من جون لينن، في انتظار أشياء أخرى ستصيبنا بخيبة الأمل حين تحدث.
وصدقوني، أنا أعرف تماماً ألم هذه الذكريات في الغربة، فأنا أيضاً مثلكم، رحلت عن بلادي صغيراً، إلى غربة أقسى في بلاد فقيرة وحارة على ضفاف خط الاستواء، لا إلى الشمال البارد الغني كما فعلتم أنتم، ورحلت قبل أن نعرف تطبيقات التراسل الفوري واتصالات الفيديو وكل ما يجعل الغربة أسهل في ظاهرها، وأصعب في جوهرها. نعم، أنا أعرف قسوة هذه الذكريات في تيه غربتكم القسرية، وقد كانت مؤلمة لي في غربتي الطوعية قبل ربع قرن، وأعرف قسوة أن تسير الحياة بدوننا، وأن تستمر سعيدة في هذه التفاصيل الصغيرة دون اعتبار لفقدنا، وحزينة في تفاصيلها الكبيرة دون اعتبار لحزننا. إلا أنني أشجعكم أنتم يا من رحلتم على أن تعيشوا ألم هذه الذكريات وقبض القلب الذي تفرضه عليكم، وأشجعكم أنتم يا من لما ترحلوا بعد، أن تبحثوا عن هذه التفاصيل التي ستؤلمكم في المستقبل بعد رحيلكم، وأن تخزنوها في ذاكرتكم الشابة، وتتعلموا جمالها ودورها في حياتكم وشخصيتكم الغضة وأغانيكم الشابة.
فأنا إن كنت أعرف ألم السفر مع هذه الذكريات القاسية، أعرف أكثر ألم السفر بدونها.
تحية خاصة لفرج سليمان ومجد كيّال. وتحية عامة لشبابنا المهاجر في غربتهم.
بقلم: د. علي محمد - الرئيس التنفيذي، بيت المحتوى