في إحدى مقابلاتي التلفزيونية، كان الحديث حول أسباب ابتعاد الشباب العربي عن لغته الأم وإغراقه في استخدام اللغات الأجنبية، وكان من بين الأفكار التي طرحتُها في ذلك اليوم أن الطفل في المدرسة ينتقل من حصة العلوم حيث يجري التجارب العلمية الممتعة، إلى حصة اللغة الإنجليزية حيث يغني ويمرح ويلعب ألعاباً تعليمية، وحصة الجغرافيا حيث يستمتع باستكشاف الأرض، إلى حصة اللغة العربية، حيث ينتقل فجأة إلى كُتَّاب تحت شجرة زيتون في القرن السابع عشر، ومدرِّس يحمل العصا ويردد: "أبجد هوز حطي كلمن".
في هذه الصورة الكثير من المبالغة طبعاً، ويستحق أساتذتنا الأجلاء في مدارسنا اعتذاري، فنحن تعلمنا على أيديهم، وأنا شخصياً حافظت على سلامة لغتي العربية بفضلهم منذ تلك الأيام الغابرة، وقد جاوزت اليوم الأربعين ربيعاً (أو أربعين خريفاً، فربما تسمح لي لغتنا العربية بهذه الاستعارة البيانية!).
إلا أن توجيه الاعتذار لأساتذتنا الأجلاء لا يعفينا من مواجهة الواقع: نحن اليوم في حاجة ملحة إلى عملية تحديث واسعة لمناهج اللغة العربية في مدارسنا وجامعاتنا، وأنا بهذه العبارة لا أستثني أي منهاج عربي في أي دولة عربية، ولا أي جامعة عربية.
قد لا أكشف سراً إن قلت إنني حاولت العمل مع عدد من خريجي قسم الإعلام باللغة العربية من جامعات مختلفة في الإمارات، وكان القاسم المشترك بينهم جميعاً عدم قدرتهم على كتابة مقال صحفي واحد باللغة العربية، مقارنة ببراعتهم اللافتة بكتابة مقالات وأخبار وتغطيات متنوعة باللغة الإنجليزية.
فأين يكمن الخطأ إذاً؟
في عام 2006، كنت مدرِّساً للغة الإنجليزية التفاعلية لغير الناطقين بها في مركز لغات في مدينة اللاذقية السورية، وكنت محظوظاً بتدريس العديد من أصحاب المواهب الرائعة في اللغات من أبناء هذه المدينة. في ذلك الوقت، كنت أطلب من المتعلمين كتابة واجبات محددة باللغة الإنجليزية، وكان بعض الطلاب يحرصون على الكتابة بلغة شاعرية فذة، باللغة الإنجليزية، وينجحون في ذلك أيما نجاح. إلا أن السؤال الذي كان يراودني دوماً كان التالي: لم الإصرار على الكتابة بهذه اللغة التعبيرية الفذة، على الرغم من طلبي المباشر الكتابة بلغة بسيطة ومباشرة؟ كان السبب بديهياً جداً: هكذا تعلمنا وهكذا طلب منا أساتذتنا على مر السنوات.
نحن في مناهجنا في تدريس اللغة العربية نغفل العديد من مسلمات التدريس الحديث للغات، كما نغفل الخصوصية الاستثنائية للغتنا العربية. وفي ما يلي تلخيص لبعض أهم هذه النقاط التي تغفلها مناهجنا.
-
تُركز مناهج اللغة العربية في مدارسنا على تعليم الأساليب الأدبية الكلاسيكية، بما في ذلك المقامات على سبيل المثال، وهو أمر ممتاز طبعاً، إلا أنها تهمل تماماً أساليب الكتابة العصرية، ولا تشتمل أية مواضيع حول كيفية كتابة المراسلات التجارية أو الرسائل الالكترونية أو محتوى المواقع الالكترونية أو لغة التطبيقات الرقمية وغيرها، في حين ذهبت المناهج التعليمية العالمية بعيداً في هذا الأمر، ويتخرج طلاب المدارس البريطانية على سبيل المثال بمعرفة واسعة في فنون الكتابة العصرية.
- الحل: إعادة بناء مناهج اللغة العربية لتتضمن فنون الكتابة العصرية، دون إهمال الفنون الكلاسيكية طبعاً، مع ضمان تدريب المدرسين على هذه الطرائق بالوسائل الملائمة.
-
تتعامل المناهج العربية مع تدريس اللغة العربية لطلابنا على أنها لغتهم الأم، إلا أنها ليست كذلك: اللغة العربية مزدوجة اللسان، وما نتحدثه في منازلنا (اللهجات العامية) يختلف عن ما نتعلمه في المناهج، وهو أمر من الخطر إغفاله في بناء هذه المناهج، لأن النتيجة ستكون تصعيب اللغة على المتعلمين وخصوصاً الأطفال في المرحلة الابتدائية.
- الحل: تعديل المناهج ودمج طرائق تدريس اللغات للناطقين بها مع طرائق تدريس اللغات لغير الناطقين بها، مع توظيف طرائق تعليم اللغات العصرية.
-
تعتمد مناهج اللغة العربية تدريس اللغة العربية الكلاسيكية منذ المراحل العمرية المبكرة، وتهمل تماماً تدريس اللغة العربية المعيارية الحديثة.
- الحل: اعتماد تدريس اللغة العربية المعيارية الحديثة وتبسيط قواعد النحو والإملاء وتخصيص مناهج محددة في المرحلة الثانوية لتدريس اللغة العربية الكلاسيكية وفنونها البديعية ونحوها وصرفها وإملائها.
-
ضمن نفس السياق، تُثقل مناهج اللغة العربية في مدارسنا كاهل الطلاب منذ عمر مبكر بالقواعد الصارمة للنحو والصرف والإملاء، والاستثناءات والحالات الشاذة لكل منها، ويتفنن الكثير من الأساتذة للأسف في تعجيز الطلبة بإعراب الحالات الاستثنائية والشاذة.
- الحل: التركيز على الإعراب المفيد وتبسيط طريقة شرح قواعده، وترك الحالات الاستثنائية والصعبة للمتخصصين في مرحلة التعليم ما بعد الثانوي.
-
تعتمد غالبية مناهج اللغة العربية في مدارسنا على أسلوب القرن السابع عشر في تدريس قواعد اللغة العربية، حيث يتم التركيز على نص القاعدة أكثر من تطبيقاتها، ويُطلب من التلميذ حفظ القاعدة وتسميعها، دون مراعاة أن هذه القاعدة كُتبت أصلاً بأسلوب قديم وتقليدي ولم تتم أية عملية تحديث على نصها منذ كتابتها.
- الحل: اعتماد التعلم بالأمثلة ونبذ الحاجة إلى حفظ القاعدة والاكتفاء بالقدرة على تطبيقها، مع التركيز على القواعد التي لا تزال مستخدمة في اللغة العربية المعيارية الحديثة، وإغفال القواعد المعقدة للعربية الكلاسيكية والتي لا تسهم في تحسين لغة الطالب على أرض الواقع.
في الخلاصة، نحن في حاجة لوقفة شجاعة من أصحاب القرار، ولتقبل أن مناهج اللغة العربية في مدارسنا في حاجة ملحة للتحديث لتلحق بركب العصر، فهي المسؤول الأول وقبل أي عامل آخر عن تنفير أطفالنا من لغتهم الأم ودفعهم لتبني لغات أخرى قادرة على جذبهم بأساليبها السلسة وعصريتها وقدرتها على التلاؤم مع العصر الحديث، في حين أن لغتنا العربية قادرة إن سخرنا لها الأدوات اللازمة على جذب طلابنا ودفعهم للتعمق فيها وربما أيضاً لاختيارها كمهنة مستقبلية، مثل كاتب هذه السطور.