احتفلنا في بيت المحتوى باليوم العالمي للغة العربية، الذي أعلنته الأمم المتحدة في 18 ديسمبر من كل عام، تخليداً لذكرى إدخال لغتنا كلغة رسمية في الأمم المتحدة في عام 1973. وكنت شخصياً في غاية السعادة برؤية الاستجابة الواسعة لهذا اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي. إلا أن الكثير من المشاركات التي شاهدتها أثارت فيَّ من مشاعر الأسى بقدر ما أثارت من مشاعر الغبطة بتخليد هذا اليوم.
ففي الجانب المضيء، احتفت مؤسسة محمد بن راشد بهذا اليوم من خلال وسمها الشهير #بالعربي، وخرجت شركة ’جوجل‘ العملاقة بتدوينة مميزة عن عشر مبادرات قدمتها لدعم اللغة العربية، وقدمنا نحن في بيت المحتوى مقطع فيديو عن ذكريات جيلنا في تعلّم اللغة العربية من البرامج التلفزيونية المميزة والموجهة للأطفال، في حين حفلت مواقع التواصل الاجتماعي بتكريم الهاشتاغ #اليوم_العالمي_للغة_العربية بمختلف المنشورات التي تذكِّر بمرونة لغتنا وقدرتها على الاستجابة لمتطلبات العصر.
في المقابل، ركزت العديد من المؤسسات الأخرى على البحث عن مفردات أثرية تجاوزها الزمن كما تجاوزتها اللغة العربية ذاتها، ولم تكتف بمجرد نشرها، بل شجعت المتابعين على البحث عن كلمات مشابهة، مؤكدة أن معرفة هذه الكلمات هي جزء جوهري من معرفة اللغة العربية. لنأخذ مثلاً هذا المنشور على صفحة رصيف 22 على موقع فيسبوك. حظي هذا المنشور بأكثر من 10 آلاف مشاركة، إلا أنه حصد من الجدل السلبي ما لا يليق بلغتنا العربية أبداً. يقوم المنشور على اختيار كلمات "منقرضة" من اللغة العربية والتعريف بها للمتابع، مثل كلمات "جفجفة" و"فنطيس" و"تفتاف" وغيرها. وقع الكثيرون في الحيرة عند قراءة المنشور، وعلق أحدهم "من الجيّد أن هذه الكلمات انقرضت، فأنا لم أتمكن من قراءة أي منها"، لينهال عليه الهجوم من شتى الجهات، والاتهامات بأنه ليس بعربي وأن معرفة هذه الكلمات جزء من الانتصار للغة العربية في وجه الهجمة الغربية عليها!
وقفت كثيراً أمام هذه النقاشات وغيرها، واسمحوا لي- بعد التعبير عن الحسرة- أن أطرح النقاط التالية:
- اللغة، أي لغة في العالم، تُقاس بما هو حي منها، لا بما يحتويه قاموسها من مفردات. على سبيل المثال، يضم قاموس أوكسفورد الحديث أكثر من نصف مليون مفردة باللغة الإنجليزية، إلا أن الغالبية العظمى من هذه المفردات انتهى استخدامها وانتقلت إلى متحف اللغة، ولا يتجاوز عدد المفردات المستخدمة حالياً 25 ألفاً، من بينها أقل من ألف مفردة مستخدمة في الحياة اليومية. إلا أن ما يميز اللغة الإنجليزية هو المرونة العصرية، حيث تستوعب سنوياً مئات المفردات الجديدة، وتتخلى عن مئات أيضاً.
- حين عبر البعض عن عدم رضاهم عن تحديهم بهذه المفردات التي عفا عليها الزمن، هاجمهم البعض بأن هذا ناتج عن جهلهم، وهو في الواقع اتهام غير عادل: من الطبيعي أن يعرف الإنسان مفردات اللغة التي يسمعها، ومن غير المنطقي البحث عن مفردات منقرضة وتحدي العالم بمعرفتها.
- أية فائدة يمكن أن نجنيها من الاحتفاء بما مات من لغتنا، وفي الوقت ذاته، إغلاق الأبواب أمام ما هو حي ومتطور منها؟
- لطالما افتخرنا بأن اللغة العربية تمتلك القدرة على التطور والاستجابة لمتطلبات الحياة المعاصرة، فلم لا نساعدها في ذلك بدل تقييدها أكثر فأكثر ويوماً بعد يوم؟
نحن اليوم نواجه تحديات لغوية كبيرة، ليس أقلها ابتعاد الجيل الناشئ عن لغته الأم، واعتماد اللغة الإنجليزية كلغة عالمية ولغة تعليم، بالإضافة إلى استسهال اعتماد العامية في وسائل الإعلام والابتعاد عن العربية المعيارية الحديثة. وللتعامل مع هذه التحديات، ما هو مطلوب منا كمتخصصين في اللغة العربية هو تعزيز مرونة هذه اللغة وتقديمها في إطار يجذب الجيل الجديد، لا أن نصرّ على تحجيمها وتحجيرها معاً، وتقديمها وكأنها كائن منقرض نسعى لأن نبث فيه بعض الحياة.
ولتحقيق ذلك، لا بد من اعتماد خطوات جريئة وبعيدة المدى:
- يتوجب على الجهات الرسمية النظر في تعديل مناهج اللغة العربية الموجهة لأطفال المدارس، والاستعاضة عن أسلوب "الكُتّاب" الذي عفا عليه الزمن بأسلوب عصري وتفاعلي يركز على استخدامات اللغة العربية في عالم اليوم والغد.
- لا بد من اعتماد جهة مرجعية تتمتع بالعلم والدراية اللغوية، وفي الوقت ذاته، تعتمد وسائل حديثة ورقمية لاستقراء أحدث التوجهات في اللغة العربية، وتبني ما يناسب منها كمفردات وتعابير جديدة.
- لا بد من التركيز على التمييز بين اللغة العربية الكلاسيكية واللغة العربية المعيارية الحديثة، والتعريف بهذا الفارق بين النوعين اللغويين وحتى تضمينه ضمن المناهج التعليمية.
وفي الختام، يتوجب علينا جميعاً النظر إلى لغتنا كلغة عصرية حية، والابتعاد عن تقييدها في إطار القرن السابع الميلادي، والسماح لها أن تتنفس روح القرن الحادي والعشرين. ولا يعني هذا تخليها عن جذورها أو اعتماد العامية مكان الفصحى أو إلغاء الإعراب أو غير ذلك من الدعوات المسيئة، بل يعني ببساطة احتضان التطور الطبيعي للغة، والذي عاشته لغتنا العربية كما كل لغة أخرى في العالم.
د. علي محمد هو المؤسس والمدير التنفيذي - بيت المحتوى