لطالما كانت اللغة، أي لغة، مرآةً تعكس المستوى المعرفي في المجتمع الذي تتطور بين أحضانه بجميع جوانبه، العلمية والثقافية والأدبية. وفي حين ما زالت المعاجم الإنكليزية -على سبيل المثال- مفتوحةً في كل زمان ومكان لاستيعاب كل جديد، قرر الكلاسيكيون العرب طي صفحات المعاجم العربية أمام المصطلحات الجديدة، فيما يبحث الجيل الجديد من اللغويّين المتحمسين للحفاظ على تألق لغتهم في كل زمان ومجال عن أبواب جديدة لاستيعاب علوم العصر الحديث وأدبياته. وقد تصعب إعادة فتح المعاجم لاستيعاب كل جديد، إلا أننا نستطيع أن نلجأ إلى أداةٍ عصرية سهلة المنال لكل مهتم، فنعمل على تطوير المسارد اللغوية المتخصصة بالاعتماد على مجموعةٍ من الأدوات الحديثة لتحقيق الهدف المتمثّل بالتوصّل لتوافقٍ اصطلاحي.
ومن المعلوم أن ازدهار اللغة يرتبط مباشرةً بتطوّر المجتمع، لتحظى اللغة بالقدرة على تجاوز حدود اللغات الأخرى، وتزرع مفرداتها واصطلاحاتها فيها. ولعلّ أفضل مثال في هذا السياق هو ما نتغنى به من تاريخنا في العصر الذهبي للأمة العربية، حين كانت العربية لغة العلم في العالم، وتمكّنت من ترك بصمتها في اللغات الأخرى، فنرى الاسطرلاب والخوارزميات والكحول والجبر وغيرها من المصطلحات في مختلف ميادين المعرفة قد دخلت اللغات العالمية قادمةً من اللغة العربية، وتمكن أخصائيو هذه اللغات من التأقلم مع العناصر الجديدة وتكييفها مع قواعد لغاتهم لفظاً وشكلاً. ونتيجة الدورة الإنسانية اللامتناهية للنفوذ، انتقلت حقوق التسمية التي تمتع العرب بها يوماً إلى حضاراتٍ وشعوب أخذت شعلة المعرفة الإنسانية إلى مستوياتٍ جديدة، طارحةً بذلك الكثير والكثير من الأسماء والمصطلحات التي تحتاج إلى الكثير من الجهد والبحث من اللغويين العرب لاستيعابها. وفي هذا السياق لا بد من التركيز على الأهمية التي لعبتها المعاجم العربية في تنظيم اللغة العربية وصونها حيث بدأت فكرة المعجم عند العرب في عصرهم الذهبي أي بعد نزول القرآن الكريم، ودخول غير العرب في الإسلام واستعصاء بعض مفردات القرآن على الكثير منهم. مما استدعى شرح القرآن والحديث ولغة العرب عموماً.
ويعاني اللغويون العرب من تشتت ملحوظ في ممارساتهم اللغوية نظراً لغياب التعريف الواضح للفروقات بين اللغة العربية المعيارية الحديثة والعربية الفصحى الكلاسيكية، في مجالات النحو والمصطلحات والصوتيات. وقدّمت مؤسسة ’بيت المحتوى‘ ورقة بحثية مفصّة في هذا المجال بعنوان (اللغة العربية المعيارية الحديثة والفروقات بينها وبين اللغة العربية الفصحى الكلاسيكية) تناولت مختلف الفروقات اللغوية بين جيلي اللغة العربية، إلا أن الجانب الاصطلاحي لا يزال يمثّل عائقاً أمام التوصّل إلى شكلٍ موحّد في اعتماد مصطلحاتٍ عربية جديدة مقابل المصطلحات الجديدة في اللغات الحية. وبالنظر إلى التطوّر التقني والاتساع الكبير في إمكانيات الاتصال، نجد فرصاً كبيرة أمام تواصل العقول اللغوية حول العالم. وبات من السهل اليوم التواصل مع اللغويين العرب، وجمعهم مع الأخصائيين في أي مجالٍ علمي بشكلٍ يمكّنهم من فهم جوهر المصطلح الأجنبي، للتباحث والتوصل إلى توافقٍ حول اصطلاحٍ عربي مرادف، إذ وصل التنوّع الذي نشهده في استخدام المصطلحات حداً يصعب معه فهم أي نسقٍ في اعتماد الكلمات الجديدة. والحل الوحيد في مواجهة مثل هذا التنوّع والاختلاف هو تقديم منصةٍ إلكترونية جامعة تتيح تواصل اللغويين العرب مع بعضهم من جانب، مع الأخصائيين في المجال المعرفي من جانبٍ آخر.
ويتمثّل الهدف الأسمى من جمع أكبر شريحة ممكنة من اللغويين العرب بالعمل على التوصّل إلى أسسٍ مشتركة حيال تعريب كل جديد وحديث في مختلف مسارب الحياة، فمن غير المعقول أننا، كلغويين، لا نجد مرجعيةً حديثة نثق بها لترجمة العلامات التجارية مثلاً، فنجد أحدنا يتركها بلغتها الأم وآخر يعرّبها حرفياً وثالث يحاول ترجمتها ما استطاع إليها سبيلا، علماً أن النسبة الغالبة من الشركات لا تهتم بتعريب أسمائها على مختلف المنصات الإعلامية. وإن اعتبرنا ترجمة الأسماء أمراً شخصياً، فإن ترجمة المصطلحات العلمية الجديدة ليست بذلك، ولعلنا لم ننسَ بعد اللغط الكبير الذي عاشه علماء العرب عند تأكيد وجود (Gravitational Waves) علمياً، فترجمها البعض بالأمواج الثقالية فيما ذهب آخرون لترجمتها بموجات الجاذبية، فأحدهم دعّم وجهة نظره بمواقع إخبارية شهيرة، والثاني وجد في ’ويكيبيديا‘ ضالته، علماً أن هذين المصدرين لم يكتبا بأيدي لغويين متخصصين.
ومن هنا برزت أهمية ’مجتمع المترجمين العرب‘ الذي طرحته مؤسسة ’بيت المحتوى‘ ليتيح الفرصة أمام كل غوّاصٍ باحثٍ عن الدرّ في أحشاء بحر لغتنا، وأمام كل عالمٍ وباحثٍ عربي ليجد ضالته خلال صوغ أوراق العمل والأبحاث، إذ نسعى لوضع مسارد اصطلاحية بعد استيفاء حقها من البحث والمناقشة، ليتم تصنيفها ودعمها بالأدلة والبراهين المبنية على قواعد اللغة العربية المعيارية الحديثة. ويبقى طبعاً أن هذه الجهود لن يكتب لها النجاح إلا إذا قوبلت بالمزيد من البحث والدراسة من جمهور المتخصصين، آملين ألا يطول انتظارنا لمؤتمر لغوي جامع يضع المعايير المنتظرة ويسهم في بناء عصر جديد للغة العربية.
نصر أنقر هو مدير الجودة في مؤسسة بيت المحتوى.